برشت (Bertolt Brecht) تولت برشت: رائد المسرح السياسي ومبتكر "تأثير التباعد"
تولت برشت: رائد المسرح السياسي ومبتكر "تأثير التباعد"
يُعد برتولت برشت (1898 – 1956) واحدًا من أبرز الأسماء في المسرح الحديث، ليس فقط لموهبته الأدبية والمسرحية، بل لأنه أعاد تعريف وظيفة المسرح ودور الجمهور، وابتكر أسلوبًا جديدًا في التعبير الفني جعل المسرح أداة فكرية وتحريضية تهدف إلى إحداث تغيير اجتماعي حقيقي.
من هو برشت؟
وُلد برشت في 10 فبراير 1898 في ألمانيا، وتوفي في 14 أغسطس 1956. كان كاتبًا مسرحيًا، مخرجًا، وشاعرًا، واشتهر بمسرحه السياسي الذي واجه الأنظمة القمعية، وانتقد الرأسمالية والحروب. شكلت حياته وتجربته السياسية خلفية قوية لأعماله التي ما زالت تُعرض وتُدرّس حول العالم حتى اليوم.
أهمية برشت في المسرح
1. المسرح كوسيلة للتغيير الاجتماعي
آمن برشت أن المسرح يجب ألا يكون مجرد ترفيه أو تهرب من الواقع، بل منصة نقدية تدفع الجمهور للتفكير والعمل. لذلك ركّز على القضايا الاجتماعية والاقتصادية، وفضح آليات القهر والفساد من خلال نصوصه وشخصياته.
2. "تأثير التباعد" – Verfremdungseffekt
واحدة من أعظم ابتكارات برشت هي نظرية "تأثير التباعد"، والتي تهدف إلى منع اندماج الجمهور عاطفيًا مع الشخصيات، وتشجيعهم على التفكير النقدي فيما يشاهدونه. لتحقيق ذلك، استخدم تقنيات مثل:
-
كسر الجدار الرابع (مخاطبة الجمهور مباشرة)
-
استخدام لافتات أو تعليق صوتي لشرح ما سيحدث
-
إدخال الأغاني بشكل غير متوقع
-
تبديل المشاهد دون مقدمات منطقية
كانت فكرته أن الجمهور ليس عليه أن يبكي، بل أن يفكر.
3. الابتكار الأسلوبي
لم يكن برشت تقليديًا في إخراجه أو كتاباته، بل استخدم تقنيات مثل:
-
إدخال الموسيقى والأغاني الساخرة
-
تغييرات مفاجئة في الزمان والمكان
-
شخصيات رمزية ومواقف كاريكاتورية
-
السخرية من السلطة والنظام
أبرز أعماله
-
الأم شجاعة وأبناؤها (Mother Courage and Her Children): مسرحية عن أم تتبع الجيش لتبيع بضائعها خلال الحرب، وتخسر أبناءها واحدًا تلو الآخر بسبب جشعها.
-
أوبرا القروش الثلاثة (The Threepenny Opera): عمل موسيقي ساخر يتناول العلاقة بين الفقر والجريمة والرأسمالية، وفيه ظهرت أغنية "Mack the Knife" الشهيرة.
-
دائرة الطباشير القوقازية (The Caucasian Chalk Circle): عمل رمزي عن العدالة والأمومة والسلطة، مستوحى من حكايات شرقية.
-
الصعود المقاوم لأرتورو أوي (The Resistible Rise of Arturo Ui): مسرحية سياسية تسخر من صعود هتلر إلى السلطة من خلال قصة عصابات في شيكاغو.
أثره على الأجيال
لم تتوقف تأثيرات برشت عند زمنه، بل استمرت في تشكيل أجيال من الفنانين والمخرجين. من أبرز المتأثرين به:
-
هارولد بينتر (Harold Pinter): كاتب إنجليزي حاز نوبل، تأثر بأسلوب برشت في التوتر الصامت والحوار المكثف.
-
أدريان ميتشل (Adrian Mitchell): شاعر ومسرحي إنجليزي وظّف أدوات برشت في شعره السياسي.
-
فولفغانغ إيشهورن (Wolfgang Iser): كاتب ومسرحي ألماني اهتم بتأثير التلقي، وهو مجال قريب من أفكار برشت حول الجمهور.
ما الذي يميز برتولت برشت؟
-
مسرح التباعد (تأثير التباعد - Verfremdungseffekt):
برشت ابتكر تقنية تجعل الجمهور يراقب المشهد بعين ناقدة بدل الانغماس العاطفي الكامل، ليُفكر في الرسائل الاجتماعية والسياسية بدلاً من التفاعل العاطفي فقط. -
المسرح كأداة للتغيير الاجتماعي والسياسي:
لم يكن هدفه الترفيه فقط، بل استخدم المسرح كمنصة لفضح الظلم والاستغلال، وتحفيز الجمهور على التفكير والعمل من أجل إصلاح المجتمع. -
الابتكار الفني في الأسلوب:
دمج بين النص المسرحي، الموسيقى، الأغاني الساخرة، وتغييرات غير متوقعة في المكان والزمان، بالإضافة إلى استخدام السخرية والتعليقات المباشرة. -
التركيز على الفكرة أكثر من العاطفة:
كان يهمه أن يفهم الجمهور الموضوع والموقف بعمق، وليس أن يُغرقهم في مشاعر الشخصية فقط. -
أعماله الرمزية والسياسية:
مسرحياته مثل "الأم شجاعة" و"أوبرا القروش الثلاثة" تناقش قضايا مثل الحرب، الفقر، الظلم، والديكتاتورية بطريقة غير مباشرة ولكنها قوية.
أهم التغيرات التي قدمها برتولت برشت في المسرح
-
ابتكار "تأثير التباعد" (Verfremdungseffekt):
جعل الجمهور ينظر إلى العرض بشكل نقدي وعقلي بدلاً من الانغماس العاطفي، ليصبح المسرح وسيلة للتفكير والتحليل بدلاً من مجرد الترفيه. -
المسرح كأداة اجتماعية وسياسية:
حول المسرح من مجرد عرض فني إلى منصة للنقد الاجتماعي والسياسي، بهدف إثارة وعي الجمهور وتحفيزه على التغيير. -
دمج الموسيقى والأغاني داخل المسرحية:
استعمل الأغاني بطريقة غير تقليدية تعزز الرسالة بدل أن تكون مجرد ترفيه، مما أثرى البنية الدرامية وأسهم في توصيل الفكرة بشكل أعمق. -
تغيير الزمان والمكان بشكل فجائي:
تخلى عن التسلسل الزمني والمنطقي المعتاد، ليكسر منطق القصة التقليدية ويحث الجمهور على التركيز على الرسائل والأفكار. -
كسر الجدار الرابع:
جعل الممثلين يتحدثون مباشرة إلى الجمهور، مما أكسر الحاجز التقليدي بين الممثل والمتفرج وزاد من التفاعل الذهني. -
شخصيات رمزية وساخرة:
استخدم الشخصيات كرموز أو تمثيلات لأفكار أو قوى اجتماعية، بدلاً من التركيز على الواقعية النفسية فقط.
1. تأثير التباعد (Verfremdungseffekt)
هذه هي التقنية الأهم عند برشت. الهدف منها هو منع الجمهور من الانغماس العاطفي الكامل في القصة أو الشخصيات، ليظل في حالة وعي نقدي. يعني بدل ما يبكي أو يتعاطف بشدة مع الشخصية، يبقى يفكر: "لماذا تصرفت هذه الشخصية هكذا؟ وما الدرس الاجتماعي أو السياسي وراء هذا الحدث؟"
كيف يتم ذلك؟
-
مثلاً، قد يضع الممثل لافتة مكتوب عليها "المشهد التالي يصور الظلم الاجتماعي"، أو يتوقف فجأة ليشرح للجمهور.
-
يمكن أن يُستخدم تعليق موسيقي ساخر أثناء وقوع حدث مأساوي، ليقلل من العاطفة ويزيد من التفكير.
2. كسر الجدار الرابع
في المسرح التقليدي، الممثلون لا يتحدثون إلى الجمهور مباشرة، بل يتظاهرون أن الجمهور غير موجود. برشت كسر هذا التقليد، فالممثل قد يتوجه مباشرة للجمهور، يشرح أفكار أو يعلق على الحدث.
مثال:
في مسرحية "الأم شجاعة"، قد تخاطب الأم الجمهور مباشرة وتشرح دوافعها وأفكارها، فتشعر الجماهير أنهم ليسوا مجرد متفرجين بل مشاركون في الحدث.
3. استخدام الأغاني والتعليقات الموسيقية
الأغاني ليست مجرد ترفيه أو استراحة، بل وسيلة لعرض وجهة نظر أو نقد معين. تكون الأغاني أحيانًا ساخرة أو تحمل رسالة قوية.
مثال:
في "أوبرا القروش الثلاثة"، الأغاني تنتقد الجشع والفساد في المجتمع، والموسيقى تضيف بعدًا فكاهيًا ساخرًا يجعل الجمهور يفكر بعمق.
4. تغيير المكان والزمان فجائيًا
برشت لم يكن مهتمًا بالترتيب الزمني أو الواقعية في التنقل بين المشاهد. التنقل المفاجئ بين الأماكن أو الفترات الزمنية يجعل الجمهور يركز على الفكرة أو الرسالة، وليس على قصة متسلسلة.
مثال:
المشهد قد ينتقل من سوق في زمن الحرب إلى غرفة محكمة في مشهد آخر بدون مقدمات، ليبرز تناقضات القصة أو يوجه رسالة معينة.
5. شخصيات رمزية وليس واقعية
الشخصيات عند برشت تمثل قوى أو أفكار معينة، مثل الفقر، الحرب، الجشع، أو السلطة، وليسوا مجرد أشخاص عاديين بأبعاد نفسية معقدة.
مثال:
شخصية "الأم شجاعة" تمثل الأم التي تسعى للربح وسط الحرب، رمزًا للناس الذين يحاولون البقاء في أوقات الأزمات، وليس شخصية درامية بالمعنى التقليدي.
6. استخدام اللافتات والنصوص المعروضة على المسرح
قد يعرض الممثلون أو يُعلق على لافتات مكتوبة معلومات أو عناوين مشاهد أو حتى أفكار لتوجيه تفكير الجمهور، وهذا يقطع حالة الانغماس.
7. إظهار عمليات الإنتاج المسرحي
بدلًا من إخفاء الديكور أو الأدوات، قد يترك برشت هذه الأمور ظاهرة للجمهور، مثل رؤية الممثل وهو يغير ملابسه على المسرح أو ظهور أضواء المسرح بشكل واضح، ليُذكّر الجمهور أنهم يشاهدون عرضًا فنيًا مصطنعًا، وليس واقعًا.
لماذا هذه التقنيات مهمة؟
برشت كان يريد أن يجعل المسرح أداة تعليمية ونقدية، ليس فقط للمتعة. هو يريد أن يحرك عقل المشاهد، يوقظه من الرضا السلبي ويشجعه على التفكير في القضايا الاجتماعية والسياسية التي تؤثر في حياته.
اسم مدرسة برتولت برشت المسرحية هو المسرح الملحمي (Epic Theatre).
شرح بسيط عن المسرح الملحمي:
-
يختلف عن المسرح التقليدي الدرامي الذي يركز على العواطف والتفاعل النفسي.
-
المسرح الملحمي يهدف إلى إثارة التفكير النقدي لدى الجمهور بدلاً من جعلهم يعيشون الأحداث بشكل عاطفي فقط.
-
يستخدم أساليب مثل تأثير التباعد، وكسر الجدار الرابع، والتغيير المفاجئ في المشاهد، ليجعل الجمهور يراقب الأحداث من منظور تحليلي.
-
يركز على طرح قضايا اجتماعية وسياسية مهمة ويشجع المشاهد على التفكير والعمل من أجل التغيير.
الخاتمة
برشت لم يكن مجرد مخرج أو كاتب، بل مفكر حرّ ثار على القوالب الكلاسيكية، وأعاد صياغة وظيفة المسرح. مسرحه لا يطلب من المتفرج أن يصفّق، بل أن يتساءل: لماذا يحدث هذا؟ وكيف يمكن تغييره؟.
ولهذا، يبقى برشت اليوم صوتًا حيًا في كل مسرح يسعى لتغيير الواقع لا الهروب منه.
تعليقات
إرسال تعليق